المرجلة الحقيقية- صفات الرجولة في الدين والفكر والأدب

المؤلف: أحمد عبد الرحمن العرفج11.17.2025
المرجلة الحقيقية- صفات الرجولة في الدين والفكر والأدب

تلقيت منذ أيام مكالمة هاتفية من إحدى قريباتي، مملوءة بالرجاء والأمل، تخبرني قائلة: "يا أحمد، ابني محمد قد كبر، وأتمنى منك أن تغرس فيه معاني المرجلة والشهامة."

لم أستطع إخفاء ابتهاجي بهذه المكالمة، ولكني في الوقت ذاته شعرت بمسؤولية عظيمة. سعادتي نبعت من أن قريبتي كانت تعترف برجولتي، وتثق بي لدرجة أنها اختارتني لأكون معلمًا لابنها، وهو ما أقدّره وأشكرها عليه جزيل الشكر.

أما الورطة التي شعرت بها، فتكمن في أمرين أساسيين:

أولًا: ما هو التعريف الدقيق للمرجلة؟ وما هي حدودها ومعناها الحقيقي؟

ثانيًا: ما هي الأدوات والخصال التي يجب أن يتحلى بها المرء، حتى يُطلق عليه بحق لقب "رجل"؟

وقبل أن نتمادى في الحديث، يجب أن نوضح الفرق الجوهري بين "الذكر" و"الرجل"، فالتمييز بينهما ضروري، ويمكن تلخيصه في النقاط التالية:

1- الذكورة أمر مفروض، والرجولة قرار واختيار واعٍ.

2- الذكورة مظهر خارجي، والرجولة جوهر ومواقف نبيلة.

3- الذكورة جنس ونسب، والرجولة صفات حميدة تُكتسب بالممارسة والتعلم.

يقول العارفون: لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بين الناس قاطبةً رجلًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وبين الرجال كان بطلًا شجاعًا، وبين الأبطال كان قدوة حسنة ومثلًا يُحتذى به!

عندما قصدت المكتبة باحثًا عن إجابات، وجدت كتابين جديرين بالاهتمام، أحدهما بعنوان "رجال حول الرسول"، والآخر بعنوان "الرجولة عماد الخلق الفاضل" للأديب السعودي المرموق حمزة شحاتة. بعد قراءة الكتابين، أدركت أنهما يركزان على نتائج الرجولة وثمارها، ولكنهما لا يقدمان خريطة طريق واضحة المعالم للوصول إليها.

عندها، عدت بذاكرتي إلى المخزون الشعبي الذي يحمل تصورات عن المرجلة، فوجدتها عبارة عن مزيج غير متجانس من العادات والتقاليد المتوارثة، وفي بعض الأحيان تشتمل على مبالغات وتصنع، ولكنها في جوهرها تحمل قيمًا أصيلة وسلومًا نبيلة من التراث الشعبي العريق.

المرجلة التي عشتها في سنوات طفولتي كانت تعني الفزعة والنجدة، ومد يد العون للمحتاجين، وكانت ترتبط أيضًا بصورة الفتوة والشجاعة، ولكنها في بعض الأحيان كانت تتجسد في مظاهر مثل الزعرنة والتشبث بالعادات القديمة.

أما عن مظاهر المرجلة في أيام "الحارة"، فكانت تتجلى في بعض الحركات والطقوس، مثل ارتداء الحذاء بطريقة معينة بحيث لا يغطّي كامل القدم، وتدخين السجائر، وكوي اليد بالجمر كدليل على قوة التحمل، ووضع الشماغ على الكتف، أو إمالة العقال، وحمل سكين أو مفك في الجيب، وتشمير أكمام الثوب، وإطالة الشوارب، وغيرها من المظاهر التي كانت تعتبر علامة على الرجولة.

ولكن، كل ما قرأته وعشته عن الرجولة لم يرق لي ولم يقنعني، ولم أجد فيه ما يدعو للفخر والاعتزاز، لذلك لم أكن أرغب في أن أنقله لابن قريبتي "محمد". لهذا السبب، لجأت كعادتي إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ثم إلى مؤلفات المفكرين والفلاسفة، لأستخلص منها المفاهيم العميقة والصادقة التي تعبر عن الرجولة الحقيقية.

أولًا: الرجولة في المفهوم الديني:

1- ذكر الله وإقامة شعائره، فالله تعالى يقول: "رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ"، وهؤلاء الرجال الأفاضل يتميزون بالخصال التالية:

التسبيح الدائم لله.

الاهتمام بالآخرة والسعي لنيل رضا الله.

إقامة الصلاة في وقتها والمحافظة عليها.

إيتاء الزكاة للمستحقين.

الخوف من يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار.

2- الصدق في القول والعمل، فالله جل وعلا يقول: "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ".

الصدق بجميع أشكاله، مع النفس، ومع الآخرين، وفي جميع الظروف.

3- القوة في قول الحق والدفاع عنه، فالله تعالى يقول: "وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ".

4- حب الطهارة والنظافة، فالله تعالى يقول: "رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ".

والطهارة نوعان:

الطهارة الظاهرة، وهي النظافة الحسية.

الطهارة الباطنة، وهي طهارة النفس والروح والقلب والعقل، كما قال تعالى: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ".

5- الإعانة على الخير والمبادرة إليه، قال تعالى: "وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ".

6- التركيز والإخلاص في العمل، فالله تعالى يقول: "مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ".

7- الرجل الحقيقي هو من يملك نفسه عند الغضب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".

8- القوامة، فالرجال قوامون على النساء، والقوامة تشمل جميع جوانب الحياة النفسية والمادية والعاطفية، وتعني تحمل المسؤولية، وهي تكليف وتشريف، ولا تقلل من شأن المرأة، بل هي دليل على أهميتها ومكانتها الرفيعة.

9- إعلاء كلمة الله ونشر دينه، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تمنوا، ثم قال: فقال عمر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالًا من أمثال عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعملهم في طاعة الله".

10- أن يبدأ الرجل بنفسه قبل أن ينصح الآخرين، وأن يكون قدوة حسنة لغيره، وفي ذلك يقول ابن القيم:

"إن الكمال: أن يكون الشخص كاملًا في نفسه مكملًا لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية، فصلاح القوة العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه، وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل، فهذه السورة على اختصارها هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره، -والحمد لله- الذي جعل كتابه كافيًا عن كل ما سواه، شافيًا من كل داء، هاديًا إلى كل خير..".

11- أن يقيّم الرجل الأشياء بحسب فائدتها ومنفعتها وقربها من الفضيلة، فلا يتبع التافه ويزهد بالجيد، وفي ذلك يقول ابن القيم:

"إذا رأيت الرجل يشتري الخسيس بالنفيس ويبيع العظيم بالحقير فاعلم أنه سفيه".

12- أن يتواضع الرجل ويعفو وينصف، يقول عبدالملك بن مروان:

"أفضل الرجال من تواضع عن رفق، وزهد عن قدرة، وأنصف عن قوة".

13- الرجل الحقيقي لا يمارس الغيبة والنميمة، قال رجل للأحنف بن قيس:

"‏أَخبَرَني رجلٌ ثقة أنك تكلمت عني بسوء، ‏فقال الأحنف: الرجل الثقة لا يَنُمُّ بين الناس".

ثانيًا: الرجولة عند الفلاسفة والأدباء والشعراء:

1- الرجولة تعني الاعتماد على الذات والاستقلالية في الرأي، يقول الطغرائي:

وإنّما رجلُ الدُّنيا وواحِدُها

من لا يعوِّلُ في الدُّنيا على رَجُلِ

ويقول فولتير:

"كن رجلًا ولا تتبع خطواتي"

2- الرجل يصبر ويتجلد عند المصائب، يقول أبو تمام:

خُلِقنا رِجالًا لِلتَجَلُّدِ وَالأَسى

وَتَلكَ الغَواني لِلبُكا وَالمَآتِمِ

3- الرجل تعرفه بالتجارب والمصاحبة، يقول البشراوي:

إنّ الرجالَ صناديقٌ مُقَفَّلةٌ

وما مفاتيحُها غيرَ التجارب

4- الرجال لا يحلفون بالطلاق، يقول ناصيف اليازجي:

إذا هَلَكَتْ رِجالُ الحَيِّ أضحَى

صَبيُّ القومِ يحلِفُ بالطَّلاقِ

5- الرجل هو من يحترم الرجال، يقول الحصري القيرواني:

"وَمَن هابَ الرِجالَ تَهَيَّبوهُ وَمَن حَقَّرَ الرِجالَ فَلَن يُهابا".

6- الرجال لا يبكون إلا مرة واحدة، ولكنّ بكاءهم يكون مريرًا، يقول بلنس فيلد:

"إنّ الرجل لا يبكي إلاّ مرّة، ولكن دموعه عندئذ تكون من دم".

ويقول حسين عجيان العروي:

صدق صديقي أن النار تأكلني

هزيمة مرة أن يبكي الرجل

7- الرجال يحبون بسرعة ويكرهون ببطء، يقول البرتو مورافيا:

"الرجال يحبون بسرعة ويكرهون ببطء، والنساء يحببن ببطء ويكرهن بسرعة".

8- الرجال يفتخرون بتربية أمهاتهم لهم، يقول بلزاك:

"الرجال من صنع أمهاتهم".

وهناك كتاب بعنوان: "عظماء صنعتهم أمهاتهم".

9- الرجل داخله طفل لا يكبر، يقول نزار قباني:

لم تستطيعي، بَعْدُ، أن تَتَفهَّمي

أن الرجال جميعهم أطفالُ

10- الرجولة صعبة قوية، يقول المثل الروسي:

"إن تكون إنسانًا فهذا أمر سهل، أما أن تكون رجلًا فأمر صعب".

11- الرجولة تحضر وتغيب، يقول جان جاك روسو:

"الرجل رجل في بعض الأوقات، والأنثى أنثى في كل الأوقات".

12- الرجل هين لين مع المرأة، وفي ذلك يقول الفيلسوف شيلر:

"الرجل هو الرأس، ولكن المرأة تديره".

13- الرجل يحب وطنه، ويحن إليه، ولا ينقلب عليه، يقول ابن الرومي:

ولي وطنٌ آليت ألا أبيعَهُ

وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا

وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ

مآربُ قضَّاها الشبابُ هنالكا

إذا ذكروا أوطانَهُم ذكَّرتهمُ

عُهودَ الصبا فيها فحنّوا لذلكا

14- الرجولة تعني القدرة على التسامح والعفو، ولذلك يقول الفضيل بن عياض:

"الفتوة هي العفو عن الاخوان".

15- الرجل صبور وكريم، يقول الشافعي:

وَكُن رَجُلًا عَلى الأَهوالِ جَلدًا

وَشيمَتُكَ السَماحَةُ وَالوَفاءُ

وَلا تَرجُ السَماحَةَ مِن بَخيلٍ

فَما في النارِ لِلظَمآنِ ماءُ

16- الرجل من يترفع عن الحقد والغضب، يقول عنترة العبسي:

لا يَحمِلُ الحِقدَ مَن تَعلو بِهِ الرُتَبُ

وَلا يَنالُ العُلا مَن طَبعُهُ الغَضَبُ

17-الرجل هو الذي يخدم الآخرين ويساعدهم:

وأفضل الناس ما بين الورى رجل

تقضى على يده للناس حاجات.

ختامًا، أقول:

هذه الصفات الجليلة هي معالم الرجولة الحقيقية لمن أراد أن يسلك درب المرجلة الراقية. أضعها بين أيديكم الكريمتين، وقبل النهاية أود أن أشدد على أهمية الرجولة التي تبعث فينا الحماس والاندفاع، فالرجولة مواقف مشرفة، وشهامة أصيلة، ونبل في التعامل، ومروءة في السلوك. لذلك، فإننا بفطرتنا السليمة نفهم هذا المعنى العميق عندما نخاطب أحدهم قائلين: "كن رجلاً!" وفي مصر الشقيقة يقولون: "خليك راجل"، وفي منطقة القصيم تعبّر الزوجة عن فخرها بزوجها قائلة: "هذا رجلي". وفي عالم الأعمال والمهن، نطلق على الناجحين لقب "رجل أعمال". جميع هذه السياقات اللغوية والثقافية تؤكد أن مفاهيم الرجولة تدور حول محور أساسي هو الصدق والأمانة وتحمّل المسؤولية والوفاء بالعهد والوعد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة